أجيئكِ حيثُ تكونين
Page 1 sur 1
أجيئكِ حيثُ تكونين
:</font>
.
(1)
وقفت وراء شباك مرسمِها بعد أن رفعت الستارة لترقب أرض وسماء وبيوتَ القريةِ متدثرة بثيابٍ صوفيةٍ سميكة تمنع عن جسدها هجوم الصّقيعِ. كانت عينا الشّمس في نهاية الأفق ناعستين مسترخيتين، وكان جفناها آخذين بالتّثاقل ما أظهر ستائر العتمة أثيرية تتراخى أطرافها ببطء في الفضاء. مدَّتْ إلى الخارج نظرةً شاملةً لم تخلُ من الكآبةِ، ترقب فيها القحل الممتد، ولون التراب الشّاحب الذي يغلف الشجيرات الناحلة المنتثرة هنا وهناك وهنالك فتبدو وكأنها خارجة من مجاعة، ويكاد يلوِّن صفحة سماء شهرِ شباط أيضًا.
قربت وجهها إلى الزُّجاج أكثر وكأنها تريد أن تتبين تفاصيل القحل. ولما غزا اللون الترابيُّ عينيها من جديد، أرجعت رأسها إلى الخلف متسائلة عن سرِّ انتشاره، ولم تجد جوابًا أبلغَ من التَّصحر.
غريبٌ هذا المكان. ما كان يومًا بالنسبة إليها إلا شاحبًا، كئيبًا، ملتفًّا حول نفسه ببخل شديد، بتقوقع، فلا هي تحبه، ولا هو يمد يدًا ببعض ودٍّ...
غصَّت وتمتمتْ:
ـ فاتَ غاستون باشلار، صاحب كتاب المكان، أن يتحدث عن المكان ـ المنفى، عن تحولِ بعض الأمكنةِ إلى غوانتانامو أو سرنديبَ أو سيبيريا أو ماريّا مارديه...
أطرقت. كانت تعرفُ أنها تمر بمزاجٍ عكرٍ لم يطل الوقتُ حتى سيطرَ عليها وأمنيةً تكررت مذ سكنت هذا المكان رغم كل النَّجاح الذي تقطفه معارضها فيه:
ـ لو سبيل إلى مغادرة!
واستكملت أمنيتها وعيناها تغرقان في الدَّمع والحلم:
ـ لو سبيلٌ إلى إطلاقِ ساقيَّ للريح، إلى حيث تتنشق رئتاي هواءً خاليًا من التراب، وترى عيناي لونًا غير لونه.
( 2 )
عبثًا بحثت عن رائحةِ مطر يغسل التّراب ويكسر الصَّقيعَ ويحيي الحلمَ. ولما أقرّت بفشلها، لاحقت الجفاف المادّ جناحيه خارجًا، ولاحقَتْها أسئلةٌ ضيقت عليها الخناق:
ـ من أين يأتي المطر؟ من أين ينبع؟ من الأرض أم من السَّماء؟ من الأرض أم من السَّماء؟
وحانت منها التفاتةٌ إلى مرآةٍ معلقة على أحد الجدران، فلمحت عينين واسعتين مرهقتين، ولمحت بشرة رقيقةً تزحف إليها ببطءٍ خطوطُ الأربعينياتِ تحفر أخاديدَ حول العينينِ ووسط الجبينِ.
لم تشعر بالقلق ولا الخوف من الزَّمانِ. ولماذا تقلقُ، ولماذا تخاف والزَّمانُ لا يعني مروره ببطءٍ أو بسرعةٍ شيئًا؛ فهو لا يحمل الجديدَ ولا تتوقع أن يحمل الجديد.
ولماذا تقلق ولماذا تخافُ وهي غارقةٌ في الحياد مذ استقرت هنا؟
الحيادُ؟
متى كانَ ثوبَها؟
مَن أطفأ شعلة الحياة المتوهجة فيها؟
(3)
انهضي .. !
فعلٌ أيقظها من حيادِها فانتفضت تبحث عن مصدره وما كانَ ليصدر إلا عن رجل استقرَّ داخلَها وما غادر حتى وهي تُلفظُ خارج وطنٍ أنهكته الحروبُ وهجَّرت أبناءه.
ما غادر رغم السِّنين التي اعتقدت أنها كفيلةٌ باقتلاع أيِّ مُستقِرٍّ، فإذا بالمسألة أشبه باقتلاع الوطن.
ـ لا تموت الأوطانُ بالتقادمِ، ولا الأشخاص الذين يمتزجون بكياننا.
رددتْ مؤمنةً.
(4)
انهضي .. !
فعل الأمر أيقظها، ففتحت عينيها السَّوداوين على وسعهما. دق قلبها، خافت أن تُسمع الدَّقات، فأمسكت قلبها .
(5)
لم يهطل المطر في موسم المطر.
صار نهر القرية ـ المنفى الذي كان يفيض شتاء وتكتسح مياهه البيوت على جانبيه حفرةً طويلة ضيقة تمتد من المنبع إلى المصب، ليس فيها إلا حجارة وبعض حشائش خجولة.
وغابت صبايا القرية اللَّواتي كن يحملن صواني الألمنيوم فوق رؤوسهن وعليها صحون الألمنيوم والملاعق والصابون العسلي اللون والرماد الملمِّع والثرثرات والأحاديث، يجلين بقايا الطَّعام ويفاخرن باللمعان، عارضات بضاعتهن تحت أشعة الشمس، متسابقات لنيل لقب "ملكِة الجلي"؛ غبن وراء المجالي العصرية يفتحن حنفيات "غروهي" الألمانية، فتعطيهن خيوطًا تشبه خيوط العنكبوت، يجلين صحون البورسلان الصيني وجاطات الزجاج الفرنسي فيما يشبه التيمم خوف فراغ الخزان الذي يملأ ماء كل يومين وبنقود تكاد تستهلك معاش أرباب الأسر الضئيل ويستدعين النهر الفائض الهادر من الذاكرة، فإذا بالذاكرة تشبه أيضًا حفرة طويلة ضيقة تمتد من المنبع إلى المصب، ليس فيها إلا حجارة وبعض حشائش خجولة.
هل يستدعى الفرح في قمة البؤس؟
صعب ... صعب.
تذكُّرُ مواسم الخير يعني أننا نعيش مواسم القحل.
جمالُ مواسم الخير أن تعاشَ لا أن تُتذكر.
ما أصعب الاحتيال على الزَّمان.
ما أصعب التَّمثيل.
ما أصعب ادِّعاء الفرح حيث لا فرح.
أحست أن لون جلدها يشبه صفحة الأرض وحفرةَ النَّهر ولونَ التراب ولونَ هذا المكان الذي يلفظها وتلفظه، يبعدها وتبعده، لا يسمح لها بالانتماء، ولا تريد هذا الانتماء.
كأنها وصلت إلى نهاية دورة الحيوية، إلى نهاية دورة الحياة.
أيمكن أن يصل المرء إلى قمة العجز وهو لم يعش كما يجب مرحلة الشباب؟
أو ليست الحياة مراحل؟
لماذا إذن تُسرق منها مراحلها وتجبر على القفز بسرعة للوصول إلى الشيخوخة التي تغط في نوم عميق هادئ يشبه نوم الموتى؟
أيمكن أن يكون الفرح المخصص لها قد انتهى؟
متى بدأ لينتهي؟
متى أعطيَ ليُحجب؟
أرادت أن تبحث عن قطرات، ولو قليلة، من مياه الفرح السحرية.
كان لديها بعضها.
تذكر أنها كانت تخبئ منها في مكان ما.
مَن سرقها منها؟
عبثًا تبحث عنها.
جفاف، ولون ترابي تعِس، ولا شيء يلوح في الأفق يبشر بلون أزرق، أخضر، لون الماء، لون الربيع.
كأنها نفيت إلى هذه الصحراء عقابًا لذنب عظيم اقترفته.
كأنها نفيت.
هذا المكان المتشقق الجاف، لا درب يوصل إليه.
ضاعت دروبه.
ويلي!
صرخت.
مَن سجنني هنا؟
أأنتظر خروجًا؟
أأنتظر زيارة؟
مَن يتكبد مشاق البحث عن دربٍ حيث لا درب؟
مَن يتكبد مشاق البحث عن امرأة تحتضر حيويتها ويستنقع وجودها، يستنقع حتى لا يُسمع منها إلا بقايا نقيق يعلو وينخفض، ثم لا بد سيختفي.
لا طيف.
لا وقع أقدام.
لا أحد منتظَر.
بشعة هي الحياة التي لا تنتظِر فيها أحدًا، ولا أحد ينتظرك.
لماذا تتعطش لانتظار ما؟
تتوق لانتظار ما؟
( 6 )
ـ مريم... أجيئكِ غدًا مع الفجرِ!
جاءتها جملتهُ مختصرةً مكثَّفةً لا تثردُّ ولا تُناقَشُ تمامًا كالقدرِ، فصدَّقت ولم تصدقْ.
(7)
الانتظارُ حلمٌ ذهبيٌّ علقه قلادةً في عنقها صوتُه الآتي للتوِّ من التاريخِ والجغرافيا.
لم تعرف إن كان عليها أن تبكي أو تضحك...
لم تعرف إن كان عليها أن تقفز في مكانِها كالأطفال السَّعداء أم تلتصقَ بكرسيها بانتظارِ موعد قد لا يكونُ إلا مجردَ رغبةٍ جامحةٍ واهمةٍ اجتاحتها فهيَّأت لها ما هيَّأته.
وهمٌ؟
وهذه الأرقامُ التي رسمَها الهاتفُ على شاشته؟
نظرت إليها لتتأكد أنها حقيقة، وأنها أتت من هناك، من الوطنِ، ومن السَّاكن فيه وفيها.
ابتسمتْ...
لمعت عيناها كقطعتي ماس أسود.
كأن ومضة سكنتهما فجأة.
كأن شرارة حيوية اشتعلت في جزء ما من كيانها، شرارة ذكرتها أن شيئًا ما، مذاقه حلو، قادر على أن يجد طريقه إلى الصَّحراء.
استيقظ وجودها جزءًا جزءًا...
استيقظ، ترطبَ، نهضَ، نهضَ...
دارت حول نفسها مرات.
أحسَّت بأنها تخطو خطوات إيقاعية.
ثم اقتربت نحو قصيدتها المعلقة على الجدار وراحت تقرأ كلماتِها التي تقول إنها ستُهدى سلة زهر وقت ينفضُّ الجميع من حولها، وتقول إن شخصًا واحدًا سيكون منتظرًا بفرح الدُّنيا فقط ليقدم الحب، الشَّيء الوحيد الذي يمتلكه.
لمستْ بأصابعها كلماتِ القصيدة البيضاءَ التي خطَّها بنفسه ذاك المساء فوقَ اللونِ البرتقاليِّ وكأنها تلمس ملامح وجهه الدافئ، ثم عادتْ لتتكورَ فوقَ كرسي مواجه لنافذة غرفتها وتتلفع بغطاء صوفيٍّ وعيناها يقظتان تنتظران فجرًا يتكوم متواريًا في ركنٍ قصيٍّ من حنايا السَّماء المغلفة بالظَّلامِ.
(8)
في الرَّابعة، لمحت عيناها اليقظتان أول خيوط الفجر، فقامت برشاقة لتغتسل وتمتشط وتتعطر والناس نيام.
بحثت بإصرار عن أغنية Hey لخوليو بين أقراصها المدمجة النَّائمة منذ سنوات. وسرعان ما كانت كلماتها تنتشر في أجواء غرفتها، تداعب لوحاتها المنتهية وغير المنتهية، تراقصُ قصيدتها التي ترجلت متهادية ترفل بثوب طويل موشى بخيطان الذهب والفضة، لتنتقل فترسم على وجهها هالة سحرية أخّاذة أزالت كل خطوط الزمن الزاحفة واستبدلت بها لونًا ناصعًا نقيًّا ووميضًا فرِحًا غزا عينيها.
ما الذي أنهضها؟
مَن الذي أنهضها؟
أهي القصيدة؟ أكاتبها؟ أسلَّة الزهر؟
أسلة الزهر؟ أو ليست مجرد كلماتٍ إذن؟
لو كانت لما فاحت رائحتها الآن...
لو كانت لما انبعثت الحياة فيها الآن...
ما الذي يحدث؟
أثمة وقع أقدام؟
أَمِن زائر إلى صحرائها حقًّا؟
هرولت إلى الشُّرفة. مرت نسمة باردة أحست أنها قبلت وجنتيها الجافتين. ولما ابتسمت لها، سمعت صوتَ تكسُّر الابتسامة، يشبه صوتها صوت تشقق الأرض.
لمست شفتيها.
أكانتا إلى هذه الدرجة جافتين؟ هل شملهما بخل الإرواء؟
لكنها عادت فأحست أنهما تترطبان.
أثمة غيم؟
أثمة خير؟
أثمة مطر آت؟
لأول مرة تحس جمال المكان رغم بساطته.
لأول مرة ترقب السطوح القرميدية المتكئة على الجدران الحجرية البيضاءِ، ولأول مرة ترى على قامات الجدران متسلقاتٍ مترابطة تبتسم بعذوبة لم تكن تراها ولا تسمعها ولا تحس بها.
أما مئذنة الجامع المضاءة باللون الأخضر، فقد أرسلت إليها تحية خضراء كسرت حدة اللون الترابي.
الهدوء عام إلا من صوت ديك استيقظ للتو وشارك خوليو غناء أغنيته التي تتكرر للمرة العاشرة أو أكثر.
كانت تعتقد أن لا ديكة هنا.
كيف تعرف وهي لم تستيقظ قبل هذه المرة في مثل هذا الوقت؟
ولماذا تستيقظ؟
لم تكن منتظِرة ولا منتظَرة.
لم تكن حية.
التفتت حولها بدهشة طفل.
السلام منتشر.
أتكتشف جمال المكان؟
أهو جميل حقًا، أم إن الجمال ينبع منا لحظة نكون في حال من الفرح الغامر؟ هل الجمال موجود حولنا، أم إننا من داخلنا نصنِّعه فتكتسب الأشياء من حولنا رقة؟
لا شك أننا نحن الذين نصنِّع الجمال كما تصنِّع النحلة العسل، فيخرج منا إلى ما حولنا، يوقظ الأشياء التي كانت تغط في نوم عميق، ولا شك أننا، في لحظات الجفاف القاتل، نحوِّل أسمى لوحات الجمال إلى بؤس كئيب.
أما قال طاغور الذي تحب شفافيته:
جميلة عندما تعمُّكِ الخيرات
وفظيعة عندما تخلين منها؟
الشمس فتية، والطيور تغني أول أغانيها.
ما الذي تغير من الأمس إلى اليوم؟
ما الذي أخرجها من جحر الفأر الذي كانت تقبع فيه؟
ما الذي فكَّ أصفاد ساقيها؟
ما الذي لوَّنَ كل الترابيِّ من حولها؟
ما الذي أحياها من بين الأموات فقامت تغتسل وتتعطر والناس نيام؟
ما الذي أنهضها؟
مَن الذي أنهضها؟
(9)
الخامسة صباحًا .
تركت خوليو في غرفتها يغني ونزلت الدَّرجَ، فأزهر الدرجُ، وأزهر مدخل البناء.
النعاج الكسولة تغط في النوم. ما هَمّ!
هي لا تريد لأحد أن يشاركها فرح اكتشاف جمال هذا الصباح.
الطرقات صامتة، وهي وحدها تغني Hey متجهةً إلى حيث ينتظرها.
تسمرت مكانها متأملةً قامته الطويلة وكتفيه العريضتين اللتين أبقت هواياتُه الرياضيَّةُ على شكلهما المشدود الشاب رغم اقترابه من الخمسين. وخفق قلبها كعصفورٍ سيَّجته الأكفُّ وهي تشمله بنظرةٍ سريعةٍ. ثم ما لبثت أن اتجهت نحوه منجذبة بقوةٍ كعادتها منذ عشرين سنة كما تنجذب قطعة حديد إلى مغناطيس.
وتساءلت للحظةٍ عن سرِّ عدم محاولتِها انتزاعَ هذا السِّحر الذي يسيطرُ به عليها. ولكنَّ الوقت لم يكن مناسبًا لإيجادِ جوابٍ أبعد من أنه سحرٌ خلاّق يشبه سحرَ الحكايات الخرافيّة التي كانت تُنهِض خيالَها عندما كانت صغيرةً.
اقتربت أكثر، فتدفقت ابتسامته العريقةُ التي شقَّتْ دربًا إلى صحرائها، وخفق عقلها مع قلبها، وخفقت كل أحلامِها النديَّةِ.
تدفقت ابتسامته، وتدفقت معها كلُّ الأمكنةِ الحلوةِ التي زاراها معًا من طرابلس إلى بيروت وصيدا وصور وبعلبك وبيت الدِّين وجعيتا والمتاحف ومعارض الكتب والأزقة وصالات المسرح والمكتبات والمؤتمرات.
تدفقت ابتسامته وتدفق معها كلُّ ما سمعاهُ عشرات المرّاتِ معًا: فيروز، وخوليو، و(فور إيليز) بيتهوفن، و(جيجي لاموروزو) داليدا، وفصولُ فيفالدي الأربعة.
تدفقت ابتسامته فتدفقت معها كلُّ الألوانِ الدافئة التي كانت تبحث في غيابه عنها لتلون بها لوحاتها فلا تجدها...
تدفقت ابتسامته فتدفقت معها كل ذكريات وقوفه إلى جانبها وهي تحضِّرُ لإقامةِ معارضها بدءًا باختيار ألوانها، مرورًا بالموضوعاتِ، وصولاً إلى اختيار الصالة المناسبة، وتعليق اللوحاتِ.
كانَ نجاحها هو نجاحه.
دائمًا كانَ نجاحُها نجاحه. يحتفي به بدعوتها إلى مطعم فاخر، أو مشوارٍ لا يتعب فيه من القيادةِ، أو بتقديم هديةٍ غير عادية: ريشة رسمٍ من الذَّهب الخالص، عطر سحريّ مزجه لها بنفسه محتفظًا بسرِّ المزيجِ، خاتم اختار حجره الكريم واختار تصميمه بنفسه، قصيدة وحيدة لم يخط قلمه سواها، ودائمًا... كَتِفٌ قويٌّ تستند إليه.
تدفقت ابتسامته، فلم تستطع أن تشيحَ بوجهها عنها ولو للحظةٍ. وفكرت أنها جزء من السحر الذي يجذبها إليه؛ فهي ابتسامةٌ واثقة، مُسانِدة، مُبتكِرة، منعِشة، مُوقِظة، مُفرِحة، مُطَمئِنة، حنون...
لم تعرف إن كان عليها أن تقتربَ أكثر لتتأكد أنه هنا أو تظل على بعد خطواتٍ خشيةَ أن يوقظَها اقترابها من أجملِ حلمٍ مرَّ بها مذ وطئت قدماها أرض المنفى قبل خمس سنوات.
لكنَّ خطواته اقتربت، واقتربت معها ابتسامته. وأحست بعينيه تتلمسانها فاختلست نظرة سريعةً تجاه العينين المصوبتين نحوها، فالتقط نظراتها المختَطفة، وزحفت على شفتيه ابتسامة خفيفة سرعان ما اختفت لتحلَّ محلها ارتجافة بسيطةٌ، وهمسَ بصوتِه الدافئِ الذي ما زال يتغلغلُ ببطءٍ حرفًا حرفًا في عروقِها:
ـ آتيكِ حيث تكونين!
كانت تعرف أنه، وهو الرجلُ الصَّموتُ الذي ليس من طبعه الحديث العفوي، قد قطع مئاتِ الكيلومترات لينفِّذ هذه الجملةَ التي أحيَت داخلها فضيلةَ الفرح وأبعدت رذيلة الكآبةِ.
أما هو، فلم يشأ أن يسمع منها جوابًا سريعًا عن جملته التي كان يعرف أنه وحدها قادرة على جعلها تنتظر سنوات طويلة أخرى إن غاب. لذا، انطلق من بين أسنانِه المُطبقة حرفُ: شْ شْ شْ شْ ممطوطٌ أرفقَه بوضع سبابته الساخنة عموديةً على شفتيها الباردتين، فإذا بهما تصبحان ممرًّا لتيارٍ مخمليٍّ دافئٍ بعث فيها بلحظة كلَّ ثراءِ الحياةِ، وجعل ـ في الوقت نفسه ـ جملَها المتدافعة تنتظم وتتأنَّقُ وتُختصرُ حتى بدت أقلَّ بكثير من أن تعبر عن سعادتها بحقيقةِ وجوده معها فتلاشت الكلمات كلها وحلَّ محلها إحساس بعمق وعظَمة هذه اللحظاتِ.
وشدَّها إليه، فانبعثت منه كله، من قمة رأسه حتى أخمص قدميه رائحةُ سحابةٍ رمادية سوداء مُزْنِيَّةٍ كثيفةٍ تعبق بالمطر. انبعثت منه كله، من قمة رأسه حتى أخمص قدميه رائحة استجابات أدعيةِ الاستسقاءِ.
نزلتْ نقطة مطر على جبينها، تلتها ثانية، وثالثة ورابعة...
رفعت عينيها إلى السماءِ بدهشة فرأت شمسًا فتيةً تشق طريقَها عبرَ المطرِ إلى النوافذ القريبةِ وتتراقص على الجدرانِ وتغسلُ أشعتها الصافية على شعره الفضيِّ.
مطر وشمس؟
وماذا عن السنوات العجاف؟
أين اختفت؟
لم تُردْ أن تكفَّ عن مراقبتها اليَقِظةِ لكلِّ هذه المظاهر الغامضة الغريبةِ، لكنه حين كوَّرَ راحتَه خلفَ رأسها وقرَّبه إلى صدرهِ أغمضت عينيها وهدأت حتى إنها سمعتْ صوتَ أنفاسِه التي لم يقطعها إلا سؤالها الذي رددته من دون أن ترفعَ وجهَها المخبأ في سترته الصوفيةِ، ومن دون أن تنظر إلى عينيه، ومن دون أن تنتظر جوابًا عنه:
ـ أنتَ هنا ؟!
.</div>
- points : 0
Page 1 sur 1
Permission de ce forum:
Vous ne pouvez pas répondre aux sujets dans ce forum